فصل: فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَقَوْلِنَا: حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ.
كَقَوْلِنَا: حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ نَحِسِيَّةٌ، تَمْرٌ بَرْنِيُّ أَوْ فَارِسِيٌّ هَذَا إذَا كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ نَوْعُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ النَّوْعِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ.
كَقَوْلِنَا: جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الْعَدِّ أَوْ الذَّرْعِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ النَّوْعِ، وَالْجِنْسِ، وَالصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ ذَرْعٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فَقْدُهُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ بِأَنْ أَعْلَمَ قَدْرَهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ: بِهَذَا الْإِنَاءِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَسَعُ فِيهِ، أَوْ بِحَجَرٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ: بِهَذَا الْحَجَرِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ وَزْنُهُ، أَوْ بِخَشَبَةٍ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا بِأَنْ قَالَ: بِهَذِهِ الْخَشَبَةِ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا، أَوْ بِذِرَاعِ يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ مِلْءَ هَذَا الْإِنَاءِ بِدِرْهَمٍ، أَوْ مِنْ هَذَا الزَّيْتِ وَزْنَ هَذَا الْحَجَرِ بِدِرْهَمٍ: يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي السَّلَمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَجُوزُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: يَجُوزُ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُكَايَلَةٌ، وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَيَفْسُدُ كَمَا لَوْ بَاعَ قُفْزَانًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَمِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْعَيْنِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا يَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ الْإِنَاءَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ إنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَلَيْسَ بِنَادِرٍ أَيْضًا وَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَهَلَاكُ الْقَفِيزِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَا يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ، وَالثَّانِي- أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَائِتَةٌ فِي بَابِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ، قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ لَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ الْمِكْيَالُ وَالْحَجَرُ وَالْخَشَبَةُ تَثْبُتُ.
وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَا يَقْدِرُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَفِي فَوَاتِهَا بِالْهَلَاكِ شَكٌّ فَلَا تَفُوتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ أَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَنَقُولُ: الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ بِالْكَيْلِ لِلْحَالِ، بِخِلَافِ بَيْعِ قُفْزَانٍ مِنْ الصُّبْرَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِزِيَادَةٍ، وَالْبَائِعُ لَا يُعْطِيهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
وَقِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِثْلَ الزِّنْبِيلِ، وَالْجُوَالِقِ، وَالْغِرَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أَوْ كَانَ مَوْزُونًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ: جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ فَقْدُهُ، وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ، أَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِالْوَزْنِ.
فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ثَبَتَ نَصًّا فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مُجَازَفَةً فَلَا يَجُوزُ، أَمَّا فِي بَابِ السَّلَمِ فَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ بِالْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ الْوَصْفِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَمَّا الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ؛ فَلِأَنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وَصِفَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا يَسِيرَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَصَغِيرُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَكَبِيرُهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا وَكَذَلِكَ كَيْلًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْجَوْزَ وَالْبَيْضَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ حَتَّى يُشْتَرَى الْكَبِيرُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُشْتَرَى الصَّغِيرُ فَأَشْبَهَ الْبِطِّيخَ، وَالرُّمَّانَ.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ يَسِيرٌ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ اعْتِبَارِهِ فَكَانَ سَاقِطَ الْعِبْرَةِ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ آحَادِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ.
(وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَعِنْدَهُمَا ثَمَنِيَّتُهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاصْطِلَاحِ فَتَزُولُ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِقْدَامُ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ فِي الْأَثْمَانِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فَتَبْطُلُ ثَمَنِيَّتُهَا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ وَتَصِيرُ سِلَعًا عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا فِي سَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنِّصَالِ وَنَحْوِهَا.
(وَأَمَّا) الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ، وَالْبُسُطِ، وَالْحَصِيرِ، وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ، وَلِهَذَا لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَلْ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ}، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ لَا يُقَالُ: فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الذَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابِلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَنَوْعَهُ وَرِفْعَتَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَلْحَقُ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ السَّلَمِ شَرْعًا لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ الِاسْتِهْلَاكِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فِي الْإِتْلَافَاتِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ وَلَا يَضْمَنُ، وَلَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ يَضْمَنُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِبْدَالُ.
هَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْكِرْبَاسِ أَوْ الْكَتَّانِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْحَرِيرِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْوَزْنِ بَعْدَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ؟ إنْ كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ وَزْنِهِ مِنْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَبْقَى جَهَالَتُهُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَزْنِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَالْجَوْزِ، وَالْجُلُودِ، وَالْأُدُمِ، وَالرُّءُوسِ، وَالْأَكَارِعِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالْوَصْفِ إذْ يَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ، وَلُؤْلُؤٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَحَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ، وَكَذَا بَيْنَ جِلْدٍ وَجِلْدٍ، وَرَأْسٍ وَرَأْسٍ فِي الصِّغَرِ، وَالْكِبْرِ، وَالسِّمَنِ، وَالْهُزَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُنَا جَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ، وَالسِّنِّ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَعْلُومُ الْجِنْسَ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ، وَالتَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ، وَلِهَذَا وَجَبَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ.
(وَلَنَا) أَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَبْقَى بَيْنَ فَرَسٍ وَفَرَسٍ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا قَبْلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ»، وَالسَّلَفُ وَالسَّلَمُ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا الْبَيْعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْبَدَلِ وَبِبَدَلٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْنِ أَحْمَالًا أَوْ أَوْقَارًا؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحِمْل وَالْحِمْلِ، وَالْوِقْرِ وَالْوِقْرِ مِمَّا يَفْحُشُ، إلَّا إذَا أَسْلَمَ فِيهِ بِقَبَّانٍ مَعْلُومٍ مِنْ قَبَابِينَ التُّجَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا أَوْقَارًا لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ حُزْمَةٍ وَحُزْمَةٍ، وَوِقْرٍ وَوِقْرٍ، وَكَذَا فِي الْقَصَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَالْعِيدَانِ، إلَّا إذَا وَصَفَهُ بِوَصْفٍ يُعْرَفُ وَيَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَجُوزُ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبِنِ، وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا.
وَكَذَا فِي الطَّوَابِيقِ إذَا وَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُعْرَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِلْجَهَالَةِ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ جَازَ، وَكَذَا فِي طَشْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إنْ كَانَ يُعْرَفُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ تَمَامُ مَعْرِفَتِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ اسْتَصْنَعَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا.
وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالسَّلَمِ بَلْ هُوَ أَبْعَدُ جَوَازًا مِنْ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ تَحْتَمِلُهُ الذِّمَّةُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالْمُسْتَصْنَعُ عَيْنٌ تُوجَدُ فِي الثَّانِي، وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُهَا الذِّمَّةُ فَكَانَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ أَبْعَدَ عَنْ الْقِيَاسِ عَنْ السَّلَمِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ، ثُمَّ هُوَ بَيْعٌ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جَوَازِهِ، وَذِكْرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا يَلِيقُ بِالْعِدَّاتِ، وَكَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْتَصْنِعِ وَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْبُيُوعِ، وَكَذَا مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، وَالْعِدَّاتُ لَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَدَلَّ أَنَّ جَوَازَهُ جَوَازُ الْبِيَاعَاتِ لَا جَوَازُ الْعِدَّاتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِهِ.
.
(فَمِنْهَا) بَيَانُ جِنْسِ الْمُسْتَصْنَعِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فلابد وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَشْيَاءَ.
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ كَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْخُفِّ وَالْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ لَهُمْ فِيهِ كَمَا إذَا أَمَرَ حَائِكًا أَنْ يَحِيكَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَاتُ النَّاسِ بِالتَّعَامُلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِتَعَامُلِ النَّاسِ فَيَخْتَصُّ بِمَا لَهُمْ فِيهِ تَعَامُلٌ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى الْقِيَاسِ.
(وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ جَوَازِهِ فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ حَتَّى كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الصُّنْعِ وَأَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ يَرْجِعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ قَبْلَ الصُّنْعِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ دُونِ اللُّزُومِ فَيَبْقَى اللُّزُومُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ فَحُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَصْنِعِ- إذَا أَتَى الصَّانِعُ بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ- ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَفِي حَقِّ الصَّانِعِ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَازِمٍ إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَرَضِيَ بِهِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّهِمَا حَتَّى لَا خِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِلصَّانِعِ وَلَا لِلْمُسْتَصْنِعِ أَيْضًا (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وَفَرَى جِلْدَهُ وَأَتَى بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الصَّانِعُ فَيَلْزَمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ فِي اللُّزُومِ إضْرَارًا بِهِمَا جَمِيعًا، أَمَّا إضْرَارُ الصَّانِعِ فَلِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَمَّا ضَرَرُ الْمُسْتَصْنِعِ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ مَتَى لَمْ يَصْنَعْهُ، وَاتَّفَقَ لَهُ مُشْتَرٍ يَبِيعُهُ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لَهُمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ لَا لِلصَّانِعِ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مُشْتَرٍ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَصْنِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جُعِلَ مَوْجُودًا شَرْعًا حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَالصَّانِعُ بَائِعٌ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلِأَنَّ إلْزَامَ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يُلَائِمَهُ الْمَصْنُوعُ وَلَا يَرْضَى بِهِ فَلَوْ لَزِمَهُ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِثَمَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ فِي جَانِبِ الصَّانِعِ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَذَلِكَ مُيَسَّرٌ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ، هَذَا إذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، فَأَمَّا إذَا ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي السَّلَمِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ اسْتِصْنَاعٌ وَذِكْرُهُ الْأَجَلَ لِلتَّعْجِيلِ، وَلَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَنْقَلِبُ سَلَمًا بِالْإِجْمَاعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ هَذَا اسْتِصْنَاعٌ حَقِيقَةً فَلَوْ صَارَ سَلَمًا إنَّمَا يَصِيرُ بِذِكْرِهِ الْمُدَّةَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْبَيْعِ مِنْ الْخَصَائِصِ اللَّازِمَةِ لِلسَّلَمِ فَذِكْرُهُ يَكُونُ ذِكْرًا لِلسَّلَمِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ الْوَقْتِ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ، قُلْنَا: لَوْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّأْجِيلِ لَكَانَ مُفِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَقَدْرَهُ وَسِنَّهُ وَمَوْضِعَهُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانَ الْعُدْوَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا)- مِنْ جِهَةِ الْهُزَالِ وَالسِّمَنِ.
(وَالثَّانِي-) مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إنْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بَقِيَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ جَهَالَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِثْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِيهِ شَرْعًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ مِنْ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ فِي الْأَعْيَانِ مَا لَيْسَ فِي قِيمَتِهَا، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَلْيَةِ وَالشَّحْمِ وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ غَيْرِ السَّمِينِ وَالسَّمِينِ، وَالْمَهْزُولِ وَغَيْرِ الْمَهْزُولِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ.
(وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي السَّمَكِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الصِّغَارِ مِنْهُ كَيْلًا وَوَزْنًا، مَالِحًا كَانَ أَوَطَرِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَلَا اخْتِلَافُ الْعَظْمِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْكِبَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ طَرِيًّا كَانَ أَوْ مَالِحًا كَالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِاخْتِلَافِهَا بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ كَاللَّحْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ وَزْنًا؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ سَمِينِهِ وَمَهْزُولِهِ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً لِقِلَّتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَهُمَا، وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ بَيَانَ الْمَوْضِعِ مِنْ اللَّحْمِ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّمَكِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي الْمَسَالِيخِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ عَدَدًا فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ.
(وَأَمَّا) وَزْنًا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْخُبْزِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الْخَبْزِ وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الْخُبْزِ، وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْأَجَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَكِنَّهُ انْقَطَعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَاللَّبَنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّرْطُ وُجُودُهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَا غَيْرَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ اعْتِبَارَ هَذَا الشَّرْطِ- وَهُوَ الْوُجُودُ- لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْوُجُودُ فِيهِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ مَا قُلْنَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ أَنَّهَا مَعَ الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا لِلْفِعْلِ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ لَا سَابِقًا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ، وَفِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْمَحَلِّ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، فَإِنْ بَقِيَ حَيًّا إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ، وَالْقُدْرَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ فَحَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يَنْفَسِخُ السَّلَمُ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَقَعَ صَحِيحًا لِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ لِعَارِضِ الِانْقِطَاعِ مَعَ عَرَضِيَّةِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ ظَاهِرًا بِالْوُجُودِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ، وَالْعَقْدُ إذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ كَبَيْعِ الْآبِقِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَبْقَى لِفَائِدَةِ عَوْدِ الْقُدْرَةِ فِي الثَّانِي ظَاهِرًا أَوْلَى، لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِرَبِّ السَّلَمِ، إنْ شَاءَ فَسَخ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ.
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ أَوْ فَرْغَانَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ لِوِلَايَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهَا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ كَسَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى أَوْ كَاشَانَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَدُ طَعَامُ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي طَعَامِ وِلَايَةٍ؛ لِأَنَّ وَهْمَ الِانْقِطَاعِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ثَابِتٌ.
وَالسَّلَمُ عَقْدٌ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ غَرَرِ الِانْقِطَاعِ مَا أَمْكَنَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُضَافَ إلَيْهِ الطَّعَامُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَدُ طَعَامُهُ غَالِبًا: يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ وِلَايَةً أَوْ بَلْدَةً كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَعَامُهُ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَأَرْضٍ بِعَيْنِهَا أَوْ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ الِانْقِطَاعُ لَا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ مَعَ الشَّكِّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ «لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُسْلِمُ إلَيْكَ فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَمَّا فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَا» وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ وَأَرَادَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْفُرَاتِ الْمُسَمَّاةِ بِهَرَاةَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ يَجُوزُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ ذِكْرُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِهِ، وَهُوَ بَيَانُ النَّوْعِ لَا تَخْصِيصُ الثَّوْبِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَتَى بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ هَرَاةَ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ ثَوْبِ هَرَاةَ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ، فَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ وَذَكَرَ الشَّرَائِطَ الْأُخَرَ كَانَ هَذَا عَقْدًا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ فَيَجُوزُ، فَأَمَّا إضَافَةُ الطَّعَامِ إلَى هَرَاةَ فَلَيْسَ يُفِيدُ شَرْطًا- لَا جَوَازَ لِلسَّلَمِ بِدُونِهِ-، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِضَافَةَ أَصْلًا جَازَ السَّلَمُ فَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الطَّعَامِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ بَيْعٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، سَمَّى السَّلَمَ بَيْعًا فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَهَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ وَالْمَصُوغِ؟ فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُضَارَبَةَ بِهَا فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ مِمَّا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا حَتَّى جُوِّزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسٍ بِأَعْيَانِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَمَاقِمِ وَالْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ الَّتِي تُبَاعُ عَدَدًا، لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ وَزْنُهَا؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَسَلَمُ الْحَالِ جَائِزٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ نَظَرًا لَلْمُسْلَمِ إلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُرَاعَاةَ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ كَمَا أَوْجَبَ مُرَاعَاةَ الْقَدْرِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِيهِ كَالْقَدْرِ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ حَالًا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَنَازَعَانِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْفَسْخِ، وَفِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَشُرِطَ الْأَجَلُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إلَّا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْفَسْخِ وَالْإِضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً وَأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
وَالرُّخْصَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ بِعَارِضِ عُذْرٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ كَرُخْصَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالتَّرَخُّصُ فِي السَّلَمِ هُوَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ حُرْمَةُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَى الْحَلِّ بِعَارِضٍ عُذْرًا لِعَدَمِ ضَرُورَةِ الْإِفْلَاسِ، فَحَالَةُ الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ لَا يَلْحَقُهَا اسْمُ قُدْرَةِ الرُّخْصَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السَّلَمِ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مُسْتَفَادَةً مِنْ النَّصِّ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ مِنْ الْقَادِرِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّهْيِ الْعَامِّ فَأُلْحِقَ بِالْعَاجِزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْحَاقِ النَّادِرِ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ.
فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ، وَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
(وَأَمَّا) مِقْدَارُ الْأَجَلِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَوْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٌ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْمُدَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا شُرِطَ فِي السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ، وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يُمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ، فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْحُلُولِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ حَلَّ الدَّيْنُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ سِوَاهُ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ وَمَوْتَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَا يُبْطِلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدْيُونِ لَا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَتُعْتَبَرُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ فِي الْأَجَلِ وَبُطْلَانِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) بَيَانُ مَكَانِ إيفَائِهِ إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيَانُ مَكَانِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ الْمَوْصُوفُ أَوْ الْمَوْزُونُ الْمَوْصُوفُ ثَمَنًا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لابد مِنْ بَيَانِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، كَذَا أَطْلَقَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقُوا فَقَالُوا إذَا كَانَ حَالًا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ، هَلْ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ؟ عِنْدَهُ لَا يَتَعَيَّنُ، وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا صَارَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَعْلُومًا فَيَصِحُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ هُوَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ وُجِدَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ شَيْئًا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) أَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ مَكَان فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إطْلَاقِ الْعَقْدِ عَنْ تَعْيِينِ مَكَان الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ.
(أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ الْمَكَانِ فِي الْعَقْدِ نَصًّا فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ مَكَانِ الْعَقْدِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَاقِدَيْنِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
(وَأَمَّا)
الْحُكْمُ فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَوْ عَيَّنَا مَكَانًا آخَرَ جَازَ، وَلَوْ كَانَ تَعْيِينُ مَكَانِ الْعَقْدِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ شَرْعًا لَكَانَ تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْمُؤْنَةِ فَيَتَنَازَعَانِ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا: سَبَبُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هُوَ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَكَانِ فَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَكَانُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَكَانُ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِمُتَّحِدٍ بَلْ مُخْتَلِفٍ فَيَتَنَازَعَانِ.
(وَأَمَّا) الْمُسْلَمُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ هُنَاكَ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَاب الْإِجَارَاتِ وَيُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ هاهنا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فَلَمْ تَكُنْ جَهَالَةُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَرِوَايَةُ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصَلِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَوَّلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ: هِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُوَفِّيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ إذَا لَمْ يَتَنَازَعَا فَإِذَا تَنَازَعَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ السَّلَمِ التَّسْلِيمَ فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَحَيْثُ سَلَّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَتَخَيَّرَ مَكَانًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَان مِنْهُ مُطْلَقًا، وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ عَلَى نَقْلِ مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ فَيَرُدُّ الْأَجْرَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسْلِمَ فِي الْمَكَان الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَلَمْ يُسْلِمْ لَهُ فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ، وَإِذَا رَدَّهُ لَا يَعُودُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاعْتِيَاضَ وَبَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا، وَلِرَبِّ السَّلَمِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ الْتَحَقَ الِاعْتِيَاضُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ الْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي الشُّفْعَةِ يَسْقُطُ، وَلَوْ قَالَ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَسْقُطُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.